03‏/10‏/2009

جدي وبـُـني وبينهما أنا

قال جدي: أتعلم يابني أنني كنت أركب الحمارة من بعد صلاة الفجر وأنتقل من آآآخر القرية حتى أصل لأختي في قلب المدينة فأعيد عليها ثم أرجع من قبل المغرب وكل هذا من أجل الواجب؟
قال ابني: أتعرف ياجدي لو أنك أرسلت لها إس إم إس كان أسهل وأوفر؟

قال جدي: هل تعلم أن جدتك كل مهرها وجهازها في العرس ، مابين ذهب وملابس وأحذية وروائح وزينة وكحل وباقي الحاجيات لم يكلفني إلا مائتي دينار؟
قال ابني: أتعرف ياجد لو أنك أخذت لها عقداً بثلاثة آلاف دينار وباقة ورد بمائتين وخمسين ودبدوب عليه صورة قلب أحمر بمائة وخمسين دينار كانت أحلى؟
ضحك جدي وقال: دبدوب؟ لقد أخذت لها كبشين أملحين أقرنين ، وربطت على قرنيهما وشاحين أحدهما سماوي والآخر وردي!!

ثم قال جدي: أتعرف يا ابني ما كنا نتغذى حتى يعود أبي من المزرعة بعد الظهر فنقعد لنأكل جميعاً على نفس السفرة؟
قال ابني: أتعرف ياجدي لو كنتم ترسلون له الأكل إلى المزرعة "ديليفري" ماكنتم انتظرتم تتضورون جوعاً إلى مابعد الظهر؟

قال جدي: تعرف أننا بعد العشاء كنا جميعاً نقعد في سهرات نتسامر ونضحك وكانت تلك اللمات العائلية تستمر معنا حتى وقت النوم؟
قال ابني: تعرف ياجدي لو كنت مشترك في الفيس بووك أو تويتر كنت عرفت كل أخبار أهلنا وعائلتنا والعالم في ربع ساعة بل والتقيت مع كل أقاربك في ثواني؟

قال جدي: تعرف ياابني أن النهار كان طويلاً نقضى فيه كل أشغالنا ثم نلحق (نقيل شوية) بعد تناول وجبة الغذاء ونصحو لنشرب شاي العصرية وكنا نحس أن اليوم مازال طويلاً؟
قال حفيذه: تعرف ياجدُ لم يعد ممكناً أن ألحق على إنجاز كل مافي بالي مع أن عندي كمبيوتر وسيارة وموبايل وكل هذه الأشياء تقضي لي أشغالي في ثواني مع ذلك أحس أن اليوم قصير جداً ولايكفي لشيء وأتمنى لو كان اليوم 48 ساعة؟

قال جدي: تعرف ياحفيدي أن ذاكرتي مازالت قوية ومازلت أتذكر الأشياء كأنها بالأمس؟
قال حفيده: ماشاء الله ، أتعلم يا "جديدة" أنا ناسي اتغذيت إيه أمس؟

التفتُّ على ابني وجدي وقلت لهما أتعرفان لقد ضعت مابينكما وماعدت أقدر أن أوازن مابين الأمرين!!
هذا الحوار الذي دار في ذهني بين جدي والد أبي وبين ابني اختزلت فيه بعضاً من مفارقات العصر بين الأجبال ولمست فيه شيئاً من واقعنا الغريب مقاربة ومقارنة مابين مر واقع اليوم وحلاوة الماضي الجميل ، حقاً أنه لفارق كبير فالعالم لم يعد العالـَم والدنيا صارت أصغر والأمور تسارعت والأشياء تداخلت ، الإس إم إس قضت على معاني التواصل بين الناس البزنس صار هم الجميع وقتل المشاعر بالحياة والإحساس ، الفضائيات والإنترنت فرضت واقعاً ثقافياً جديداً والتمسك بالعادات والتقاليد على المحك ، التفكك العائلي أصبح من سمات هذا الزمان وشعارنا أنا ومن بعدي الطوفان ، الجار لا يدري ما اسم جاره إلا من اللوحة المعلقة على بابه ، الحرام اكتسب مسميات جديدة اعتُبرت له بدائل والحلال صار موضع حرص لكن فقط لدى القلائل ، المجاملة عنوان النفاق والفهلوة شعار كل نصاب وأفاق ، الكبر والغرور صار من البرستيج والايتيكيت ، أما الهَم والغمّ فقد صار ضيف كل بيت ، أوصال الرحم لعب فيها مقص القطيعة فصار الأب يعادي أخته والابن جاحداً لأمه لاعادت العائلة عائلة ولا القبيلة قبيلة ، المجتمعات فسدت وكثرت فيها المتردية والنطيحة!


كان المرء منا إذا كتب الرسالة حملها معاني عميقة وكانت البرقية لها معاني أكبر إما لتقديم المواساة أو لتقديم جزيل التشكر و كانت الزيارة العائلية مثل البلسم الشافي وكانت صلة الرحم لا تؤخرَّ ، كانت الطريق مع طول مسافتها نركب لها الدابة ولا تُمل بل هي علينا تقصر ، كانت الخضرة والفاكهة طبيعية بلا محسنات ولا كيماويات ولاصوبات زجاجية ولا مؤثر، كان الماء زلالاً نقياً لاشوائب فيه ولا تحلية من بحر ولامقطر ، كان المرء منا إذا تغذى الوجبة شعر بأنها تكفيه حتى العشاء ، اليوم صرنا نعتبر وجبة العشاء كارثة على الريجيم لا بل أخطر ، حلوانا التمر وسلوانا السمر مشروبنا الشاي وأكلنا الطازج الأخضر، لا أمراض لا قلب لا شرايين ولا ضغط ولا سكر، لا نعرف نسكافيه ولا كابتشينو ولا كراميل ولا فرابتشينو ولاملونات لا الأصفر منها ولا الأحمر ،، عيدنا عيد وبهجتنا بالأعراس أيام وأسابيع مع ذلك مصروفنا عالقد وقلة قليلة تلك التي تبذر.
يالجمال تلك الأيام فبالرغم من أننا نشتم ريح الشتاء منذ دخول الخريف والصيف نستعد له من وقت الربيع إلا أن لكل حرمته لا هذا يدخل على ذاك ولا تشعر بأن فصل من الفصول قد تقدم أو تأخر ، مستمتعين بلذتها نخرج في الرحلات والنفوس صافية وطيبة القلب تزيد من الصحة والعافية ، الغني منا لا ينسى من هو أفقر والفقير منا لا يحقد على من أكرمه ومنّ عليه ربه بنعيمه وقدّر.



عندما جاءنا التلفون حسب الناس أنه هو قمة الاختراع ، فلحق به الراديو فظن من اشتراه أن الدنيا قد حيزت إليه بالإجماع ، فجاء بعده التلفزيون الأبيض والأسود فكان من أدخله بيته أشهر من مختار المحلة وعلامة بارزة في كل القرى والضياع ، والملون أطال المدة حتى دخل بيوتنا غير أن من ابتاعه كان يشار إليه بالبنان فيعزم الأقارب والأصحاب والخلان كيف لا فعنده تلفزيون ملون ياجماعة فهو اليوم كريم بين أهله لا مقتـّر ،، بعدها جاء الفيديو ذاك الجهاز الضخم ذو الشريط الكبير هل تذكرونه؟ كان حمله فقط يحتاج إلى رجل مفتول العضلات والأفلام منه كانت إما هندي أو عربي أو "بانديتي" أو في أفضل الأحوال بروسلي والماوس ميكي أو توم آند جيري ونضحك ونتسلى ونستمتع أيما استمتاع لاخيال علمي ولا رعب ولا حتى فلم .. إحم إحم .... ثقافي من ذاك الذي لا يشترى ولا يباع!


اليوم أصبح من الممكن أن نتكلم عن ماهو أكبر! تصورّ ، بعد مدة صرنا نسمع أن هناك من يستطيع أن يلتقط بث تلفزيون أمريكا وهونولولو والصحون اللاقطة للفضائيات فوق أسطح المنازل كالجراد تنتشر فلم تبقي بيتاً ولم تذر ،، من كل حدب وصوب علينا القنوات تتكاثر كتوالد الأرانب بل أكثر ،، وفوق رأس كل عائلة تزداد مؤشرات الخطر ، قبل الفضائيات كان قد غزا البيوت جهازاً اسمه الكمبيوتر فلم يعد بعدها من الكماليات بل أساساً لدى كل عائلة ومقرر! وقبلها ومن باب الترفيه والتسلية نشتري أجهزة الألعاب الإلكترونية الأتاري والسيجا ومن منا لا يتذكر ذاك الجهاز الذي اسمه صخر.


عندما كانت فاتورة الهاتف تأتي كبيرة نهاية الشهر كان والدي يوبخنا على سوء استخدامه في مالايعني من ثرثرة لا يأتي من وراءها إلا الضرر ، وكنا ننتظر بالأيام لتحميض فِلم كوداك لكاميرتنا القديمة السوداء الصغيرة ومايحتويه من صور الرحلة المدرسية أو العائلية وكان الأمر عند رؤية النتيجة يشكل لنا فرحة بعد أن تبقى أيدينا على قلبونا خشية أن تحترق تلك الصور ، للذكرى نحتفظ بها ونتناقلها أجيال وراء أجيال ونرصها في ألبومات ونعتني بها ونصنفها من كنوز الدهر ، لم يكن يعلم والدي بأنه بعد عشرين سنة سيكون في جيب كل واحد منا هاتفاً بحجم الكف لا بل مدعماً بكاميرا رقمية غاية في الدقة لا تفوت لقطة إلا وتلتقطها لا بل ترسلها وفي ثوان كالنار في الهشيم تنتشر.

الكتاب لم يعد كما كان جليسنا في كل ليلة ، بل أصبحت مطالعة ماهب ودب على صفحات الانترنت واليوتيوب والفيس بووك وتويتر هي الأمور البديلة ، القلم فارق أصابعنا فلم نعد نكتب بأيدينا حتى كدنا ننسى الكتابة وسامح الله بيل غيتس فـ مايكروسوفت لم تترك لنا مع منتجاتها حيلة.

نعم ، الفاتورة الشهرية أصبحت ثقيلة والتركة كبيرة فالناس لم تعد تلك هي الناس والكل محتاس ، انتشر الحقد والبغض والضغينة ، الغيبة والنميمة والنفوس أصبحت لئيمة ، والكل يبحث عن غنيمة ، إلا ما سلم الله ممن على الأرض من البريئة..

اليوم أدركت مدى الفرق ، نعم كان جدي أو والد جدي يأتي ليعيّد علينا وهو يركب دراجته من المدينة القديمة إلى أين نسكن ولم يكن محل سكناناً قريباً ،، وقبله كان جده يركب الدابة أو العربة (الكاراتون) ليصل ربما لشقيقته فيقدم لها واجب المواصلة والتواصل ، اليوم رفع سماعة الهاتف للسؤال صرنا نعتبرها أثقل ، وبدلاً من ذلك "عيد سعيد" هذا ماتبقى من علاقة بيننا هذا إن أمكن أن تـُرسل.. حقاً أنها تصغر بنا وتصغر ، حتى تحاصرنا وتضيّق علينا فأين المفر!! ليست صورتي مأساوية سوداوية فهناك من أهل الخير والبركة كثير ومضات تومض في هذا النفق لربها تصلي وتبتهل وتستغفر ،، ولولا هذا لكان خبر كان قد أصبح في حكم المضارع المستمر ، ولكنا في كل يوم نمسي ولا نصبح إلا كأعجاز النخل المنقعر ،، فلا نسأل الله إلا أن يجعل أحسن أعمالنا خواتيمها وأن لا يقلب قلوبنا على هوانا وأن يجعل الإيمان فيها مستقر .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد من في الأكوان من جن وبشر.

هناك تعليقان (2):

  1. لم يخب ظني لوهلة واحدة إن لك قلما أقل مايقال عنه مبدع، تناولك هذا الموضوع وبطريقة مدخل السؤال والجواب، تنم عن قدرة على الوصول للآخر،وكم هو صعب الوصول للآخر لم يتبقى لنا من ماضي جدك وجدي سوى الذكريات ،فلازلت احتفظ بصندوق(مسمار) مطعم بالفضة كانت تملكه جدتي دائما تتذكر إن ملابسها كانت تحتويه ولم يضق بها هذا الصندوق أبدا بينما تعايرني دائما بقولي( ضيق) وترد بصوت خافت(وين الضيق دولابين ودار 5 في 6،كنا نسكنو في دار مع العيلة ومقلانش ضيق) ولازالت تتذمر من طبع أخوالي في السؤال عنها بالمحمول بقولها(مادروه في عام خير)، وكلما وجدتني متسمرة أمم جهازي الحاسوبي تمتمت قائلة( معدش نشوفو فيك من المكتب للتفلزيون اللي حاطة فيه راسك في إشارة لجهاز الابتوب ولاأخفيك بأنه أصبح الأتصال وإرسال رسالة أمر أجلته كثيرا ،فهذه صديقة عمري ليلى تضع مولدتها الأولى لم اجري اتصال معها منذ أن زرتها بالمشفى ،واليوم(تحشمت على وجهي بعد مبعتت رسالة تقول) **وينك يارفيقة العمر هذا كله لاهية**وقررت أن اجري اتصال معها وإلى هذه اللحظة لم أفعل

    ليس لديا ما أقول سوى

    الله يخرب بيت التكنولجيا على راي المصريين

    **على فكرة وبيت جدي كانو يقطنون المدينة القديمة أيضا ولازال بيت جدي قائما هناك تسكنه الجرذان**
    ولي عودة

    ردحذف
  2. المقال جميل ويصف الواقع ولكننى ضد فكرة أن الماضي أفضل من الحاضر، فالماضي مغرق في المحليةوالإنغلاق على على العالم الخارجى وهذا من عيوب الماضي ولو خيروا ناس زمان بين حاضرنا وماضيهم لربما اختاروا الحاضر بتقنياته مع الحفاظ على ميزات زمانهم الذى أضعناه في أيامنا هذه، أحمد الله على التقدم العلمى الذي وصل إليه الإنسان وأعتبر أن سوء الإستعمال هو سبب مشاكلنا
    نجاة العلوي

    ردحذف